قراء وأعضاء منتدى سماكا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
قال الله تبارك وتعال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (آل عمران: 143). ومن فوائد هذه الآية : الإرشاد إلى أن كل خير ينفع الناس فقد أمر الله به، ودعا إليه، وكل شر وفساد فقد نهى الله عنه وأمر بتركه؛ وهذا ضرورة كون هذه الأمة موصوفة بالخيرية، وأنها هديت إلى الصراط المستقيم.
بل بلغ من وسطية هذا الدين الحنيف أنه نهى عن تحريم الطيبات والغلو في التزهد وترك المباحات تحريماً لها ، وكذلك نهى عن الإسراف، وهو من الغلو في الاستغراق في الدنيا وملذاتها، وأن الصراط المستقيم بينهما، يقول تبارك وتعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ( الاعراف 31-32)ومن الأدلة على وسطية الدين وسماحته ويسر أحكامه أن الله تعالى لم يرد من عباده أن يشق علهم أو يكلفهم ما لا يطيقون ، وهذه رحمة منه لنا جل جلاله فله الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى ، قال تبارك وتعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة:6)، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة من الآية 185)، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ﴾ (النساء من الآية 28). فهذا وصف الله سبحانه وتعالى للدين بأنه يسر، وبأن الله ما جعل علينا فيه حرج، وأن الله يريد أن يخفف عنا، وكل هذا يدل على أن الغلو في الدين، غير مطلوب، بل ليس هو من الدين، وأن التوسط هو سمة الدين ومنهاجه، والوسطية بين طرفين ، تشدد وتساهل.
ولقد قرر النبي rهذا المعنى ووضحه وبينه أتم إيضاح وأكمل بيان فلقد بين بالرسم العملي والخط على الأرض الطريق الوسط والمنهج الحق لأصحابه رضوان عليهم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ r خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ. ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾".
وحذَّر عليه الصلاة والسلام من الميل والانحراف عن الصراط المستقيم ، والغلو في الدين ، والإتيان بتشددات في العبادة لم يفعلها ولا أصحابه
3) فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: (جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ r يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ r فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا – أي وجدوها قليلة - فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ rقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ.
وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)[البخاري ومسلم].
ففي هذا الحديث : بيان أنه إذا كان التشدد والزيادة في العبادة ليس من سنته فمن باب أولى التشدد والمبالغة والغلو في الأمور الأخرى. وفيه بيان أن طريقة النبي rفي العبادة أكمل الطرق وأعلاها، وفيه: التحذير من الرغبة عن سنته .
والغلو في الدين - أيها المؤمنون - ومجاوزة الحد المشروع في العبادة ومخالفة النبي r هو سبب من أسباب الهلاك ، والقصد والعمل بالسنة هو من أسباب النجاة في الدنيا والآخرة : فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. هلك المتنطعون. هلك المتنطعون)[ مسلم].
والمتنطعون هم - كما قال شراح الحديث – (الْمُتَعَمِّقُونَ الْغَالُونَ الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُود فِي أَقْوَالهمْ وَأَفْعَالهمْ.) . وهو دليل على أن التوسط والاعتدال في الأمور هو سبيل النجاة من الهلاك؛ وقال r قَالَ: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُواإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)[البخاري ومسلم].
والحديث يأمر بالتيسير و ترك التنفير والتعسير، مما يستلزم ترك الغلو وطلب الوسط، إذ اليسر هو السماحة و ترك التشدد، وخير الأمور الوسط. وذكر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أن الغلو في التعبد، من سمات طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وهم الخوارج المارقين : فذكر أنه بلغت بهم العبادة شيئاً عظيما ، ولكنها لما كانت على غير السنة مرقوا من الدين فقال عنهم: (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)[البخاري ومسلم].
فهؤلاء غلوا في العبادات – من صلاة وصيام وقراءة وجهاد زعموا - بلا فقه ولا سنة ولا علم بل بجهل وهوى والعياذ بالله ؛ فآل الأمر بهم إلى البدعة، فقال: "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، وأمر بقتلهم، فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين وكفروا من خالفهم وجاءت فيهم الأحاديث الصحيحة
بل إن الغلو – عباد الله – حتى في أفضل خلق الله وسيد ولد آدم وهو نبينا محمد r فقال عليه الصلاة والسلام: (( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ))[البخاري].
وكذلك الغلو في الأشخاص ورفعهم فوق منزلتهم هو من الأمور المحرمة فهو سبب شرك قوم نوح عليه السلام حيث صوروا تصاوير لأشخاص فلما نسي العلم عبدت من دون الله .
وأولى الناس بالتيسير على عباد الله وبيان الدين الوسط لهم وتبيين حقائق الإسلام الصافية النقية البعيدة عن التطرف والغلو والتنطع والانحراف عن المنهج الحق هم الدعاة إلى الله ومنهم المعلمون والمربون حيث يجب عليهم أولاً أن يفهموا المنهج الحق والدين الوسط فيتعلموا العلم الشرعي الذي يدلهم على الاقتصاد وترك الغلو وعدم الانحراف في فهم الدين ، ثم يجب عليهم بعد ذلك أن يعملوا به في أنفسهم ويعلموا غيرهم ، وإذا انحرف الفهم الصحيح للدين الحق والحنيفية السمحة ، فإنه سينحرف العمل بهذا الدين ينحرف الفهم لمعاني آيات الله وسنة نبيه r، ويصبح الناس يقبلون أي ناعق ينعق بالباطل حتى ولو لم يكن له من العلم نصيب . فعلى الدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن يلتزموا بهذا المنهج الرباني وأن يسلكوا هدي إمامهم وقدوتهم عليه الصلاة والسلام لما بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ داعيين إلى الله تعالى قَالَ لهما: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا))[البخاري ومسلم]
فاتقوا الله عباد الله ، واجتهدوا في عبادة الله ، ولكن بلا غلو ولا تقصير ، ولا إفراط ولا تفريط ، بل الزموا هدي رسول الله r وأصحابه ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها . فاللهم وفقنا للعلم النافع والعمل الصالح ، وجنبنا طريق أهل الغلو والجفاء ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.