يرد بذلك على كثير من المتصوفة الذين يدعون أنهم يرون الله في الدنيا, فإن من عقائدهم أن مريدهم يتمكن من رؤية الله، وأنهم قد يستغنون عن الشرع، وأن المريد, أو الأبدال عندهم والأولياء يستغنون عن الشرع؛ بحيث إنهم يطلعون على الغيب, ويأخذون من اللوح الذي يأخذ منه الملك؛ فلذلك يظهر منهم مخالفات صريحة للشريعة, فمنهم من يأكل الحرام، ومنهم من يزني, ومنهم من يترك العبادات كلها والصلوات, ويقول: إنه قد وصل إلى حالة تسقط عنه التكاليف باطلاعه على الغيب, وبرؤيته لله, وبإسقاطه عنه ما لم يسقط عن غيره؛ حتى استدل عوامهم, أو كثير من خواصهم بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فسروا اليقين بأنه العلم: العلم اللدني, ولا شك أن هذا غلط كبير, وأن اليقين في الآية هو: الموت, الذي ذكره الله تعالى عن الكفار في قولهم: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فالكفار أتاهم اليقين وعذبوا, فاليقين هنا هو الموت.
الحاصل أن هؤلاء لما كانوا يسقطون التكاليف عن مريديهم كان لا بد أن يكون لهم شيء من الحجج ومن الشبهات التي يستدلون بها، فمنهم من يقول: إنه رأى ربه, وأن ربه أسقط عنه التكاليف, وعفا عنه, بمعنى أنه: رخص له بأن لا يعبده, وأن لا يصلي, وأن لا يحج, ونحو ذلك، أو رخص له في أن يفعل الفواحش, ويشرب الخمور, ويسمع الغناء, ويستعمل الرقص, وما أشبه ذلك, سقطت عنه التكاليف, وصار يفعل ما يريد.
وكثير منهم يقولون: إن الله ينزل إلى الأرض, وأنه يرى, وأنه يُكلَّم, أو أن أرواحنا تصعد إلى الملأ الأعلى وترى ربها وتكلمه, ويخاطبها بما تريد أو بما يريد، ثم لا شك أن لهم شيئا من الشبهات, يقولون: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه في الأرض, فلا مانع من أن الرب ينزل إلى الأرض فيراه الخواص منهم, وخاصة الخاصة, ويخاطبهم ويكلمونه.
فمن ذلك من أدلتهم هذه الكلمة التي وقعت غلطا, وهي في حديث نزول الوحي لأول مرة على النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث جبريل - وهو في حديث جابر - سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي, فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا, فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض, فذعرت منه وأتيت إلى خديجة فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ .
هذا الذي رآه هو: جبريل الذي رآه على كرسي, ولكنهم إما تعمدوا, وقالوا: رأيت ربي فإذا ربي جالس على كرسي، وإما أخطأ بعضهم وقلده من روى عنه ولا شك أنه خطأ فاحش وكذب.
القصة إنما هي في نزول جبريل لما انقطع الوحي مدة, وذلك لأنه عليه السلام لما نزل عليه الوحي لأول مرة في غار حراء جاءه الملك, يقول: فغطني حتى بلغ مني الجهد, ثم أرسلني, وقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ, إلى أن قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثم أخبر خديجة وقال: لقد خشيت على نفسي, فقالت: كلا, والله لا يخزيك الله إلى آخره، ثم فتر عنه الوحي, ولما فتر وانقطع ولم ينزل عليه مدة, قيل: ثلاث سنين, اشتاق إلى ذلك, حتى كاد أن يلقي نفسه من شواهق الجبال, فإذا هم بذلك بدا له جبريل وقال: يا محمد أنت رسول الله, وأنا جبريل فيسكن روعه, إلى أن بعد ذلك استمر نزول الوحي، فالحاصل أن هذا أن من فهم أنه رأى ربه من هذا الحديث فقد أبعد النجعة, وإنما الذي رآه ملك الوحي.