لعلَّ من الأمور الكبرى التي يقع الخلط فيها ، هو مسألة الحكمة والفلسفة ، وذلك لأن استخدام اللفظتين في كتب الكتاب تأتي على نحو مترادف .. ولعل الإشكالية المهمة تأتي فيمن يخلط بين علم الحكمة الوارد في القرآن الكريم وبين (الفلسفة ) التي ليست علماً باعتراف أصحابها من المتفلسفة .. لأن العلم ينحصر في اليقين واليقين الرياضي حصراً ، ونحن إذ نقوم ببحث هذا الموضوع للثمرة الأكيدة المترتبة في الفصل بين هاتين اللفظتين وبالتالي بين علم الحكمة والفلسفة .
- ما هي الفلسفة ؟
هناك تعاريف كثيرة للفلسفة قديماً وحديثاً ونحن نأخذ نماذجاً من هذه التعاريف :
. سقراط : الفلسفة هي البحث العقلي عن حقائق الأشياء المؤدي إلى الخير ، وهي تبحث عن الكائنات الطبيعية وجمال نظامها ومبادئها وعلتها الأولى .
أفلاطون : الفلسفة هي البحث عن حقائق الموجودات ونظامها الجميل لمعرفة المبدع الأول ، ولها شرف الرئاسة على جميع العلوم .
أرسطو : الفلسفة هي العلم العام وفيه تعرّف موضوعات العلوم كلها فهي معرفة الكائنات وأسبابها ومبادئها الجوهرية وعلتها الأولى .
ديوجانس : الفلسفة هي علم السعادة في الحياة والعمل لتحقيقها .
الفارابي : الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة .
صدر الدين الشيرازي : الفلسفة هي استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات (6) .
لوك : الفلسفة دراسة العقل البشري .
فخته : الفلسفة فن المعرفة (8) .
هيجل : الفلسفة معرفة الحقائق الثابتة .
ونلاحظ على جميع تلك التعريفات الآنفة تباعاً :
أن العمل العقلي يمكن أن يعرف بعض الأمور الوجودية عن طريق ربطه للأشياء ، ولكنه قاصر عن إدراك كثير من الأمور ، فإذا عرف بالاستدلال أن هناك في المريخ بشر عن طريق آثارهم فهو قطعاً لن يعرف كيف أشكال أولئك البشر وما هي ألوانهم ، إلا إذا أخبره أحد بذلك . إذاً العمل العقلي لا يخدم الفلسفة لمعرفة الأمور إلا إجمالاً هذا في الأمور الظاهرة للعين .
أما الأمور الغائبة عن العين والحواس وليس لها آثار تدرك فالعقل عاجز أمامها . فالفلسفة ستجهل هذه الأمور .
الفلسفة لا تنتج سعادةً إلا إذا كان هناك علم قطعي تصل به النفس الإنسانية إلى السعادة والفلسفة ليست بعلم قطعي بل ليست بعلم ، فكيف يصل الإنسان بالأوهام إلى السعادة إذن ماهي إلا بقيعة سراب .
لا يمكن معرفة الموجودات بما هي هي إلا عن طريق صانعها ، لا عن طريق العمليات العقلية المحضة ولا العرفان الموهوم . فلا يعرف السيارة والتلفاز إلا صانع السيارة والتلفاز ، أومن علمتهم بسر صنعتها ، فكيف إذن يمكن استكمال النفس بمعرفة لا تصل إلى حد اليقين ..لأنه وببساطة صاحب هذه الآراء لم يشهد خلق المخلوقات . سنوضح هذه الفكرة لاحقاً .
الفلسفة ليست فن المعارف الثابتة لأن كل فلسفة تزيح الأخرى وتناقضها ، فهذه تؤمن بالله والأخرى تكفر به . وهذه توحده بشكل والأخرى توحده بشكل آخر ، مع ملاحظة أن كل فلسفة تُزاح لا تذهب إلى العدم .
- نماذج من التعاريف المعاصرة :
يعرف هوسرل (1859-1938) مؤسس مذهب الظاهريات ، الفلسفة بأنها : ( من حيث جوهرها ، علم بالمبادئ الحقيقة وبالأصول وبجذور الكل ، وعلم ما هو جذري يجب أن يكون جذرياً من كل ناحية ومن كل الاعتبارات ) . فهذا التعريف يحصر الفلسفة في الأشياء الحسية ويبعدها كل البعد عن (الميتافيزيقيا ) ومعرفة الغيبيات من أهم وظائف الفلسفة القديمة كما جاء في التعاريف السابقة .
الكانطية الجديدة : ( أنها العلم الذي يبحث في القيم المتعلقة بالحق والخير والجميل والمقدس ) وهذا التعريف يترك الأمور الجزئية إلى كل علم مخصص فيها ، فلا شأن له بالجزئيات .
مورتس شلك (1882-1936) مؤسس دائرة فينّا للفلسفة التحليلية والمنطق الوضعي فيقول ( إن الفلسفة ليست علماً بل هي نشاط أوفعالية في كل علم وهذا التعريف غني عن التعريف والتعليق .
إن الفرق بين الفلسفة القديمة والفلسفة المعاصرة إن الفلسفة القديمة طرحت نفسها كعلم يقيني ومع تقدم العلوم وتطورها ظهر جليّاً أن الفلسفة كثير من أمورها غير صحيحة وتطرح فروضاً لا يكن البرهنة عليها ، فلذلك الفلسفة المعاصرة حددت وظيفتها بالأمور التالية :
إن الفكرة القائلة إن المعرفة الفلسفية الكلية معرفة علمية باطلة .
يجب تنقية العلوم وتوضيحها وتلك مهمة يجب أن يتولى العلماء أنفسهم الجانب الأكبر منها ، ولكن الفيلسوف لا بد أن يشارك في العمل الفعلي لهؤلاء العلماء .
الفلسفة المحضة يجب أن تمارس في الظروف الجديدة التي خلقتها العلوم الحديثة ، وهذا لصالح العلوم نفسها لأن الفلسفة حية دائماً في العلوم ولا يمكن أن تنفصل حتى أن إيضاح الفلسفة والعلم لا يمكن أن يتحقق إلا بالتعاون فيما بينهما .
وأخيراً ( الفلسفة ترفض الاعتقاد الخرافي في العلم كما ترفض ازدراء العلم وهي تعترف بالعلم اعترافاً لا تحفّظ فيه ولا شروط وترى فيه أروع إنجاز للإنسان على مدى التاريخ ، إنجازاً هو مصدر لكثير من المخاطر ، لكنه ذو فوائد أعظم )