بسم الله الرحمن الرحيم
السياسة والأخلاق:
وكما ربط الإسلام الاقتصاد بالأخلاق، ربط بها السياسة أيضا، فليست السياسة الإسلامية سياسة "ميكافيلية" ترى أن الغاية تبرر الوسيلة أيا كانت صفتها، بل هي سياسة مبادئ وقيم، تلتزم بها، ولا تتخلى عنها، ولو في أحلك الظروف، وأحرج الساعات. سواء في علاقة الدولة المسلمة بمواطنيها داخليا، أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات.
إن الإسلام يرفض كل الرفض الوسيلة القذرة، ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، فالخبيث من الوسائل، كالخبيث من الغايات مرفوض، ولا بد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة.
في علاقة الدولة بمواطنيها يقول الله تعالى مخاطبا أولي الأمر في المسلمين: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا).
فأداء الأمانات ـ بمختلف أنواعها المادية والأدبية ـ إلى مستحقيها، والحكم بين الناس ـ كل الناس ـ بالعدل، هو واجب الدولة المسلمة مع رعاياها.
ولا يجوز للحاكم المسلم أن يحابى أحد أقاربه أو حاشيته، فيوليه ما لا يستحق، ويحرم من يستحق، والرسول صلى الله عليه وسلم يجعل هذا إيذانا باقتراب ساعة هلاك الأمة، فقد سأل رجل يوما عن الساعة فقال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة؟ قيل: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
كما لا يجوز إسقاط عقوبة مقررة عمن يستحقها لنسبه أو جاهه أو قربه من ذوي السلطان، وفي هذا جاء الحديث: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
إن السياسة الإسلامية في الداخل يجب أن تقوم على أساس العدل والإنصاف والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات والعقوبات، وعلى الصدق مع الشعب ومصارحته بالحقيقة دون تضليل أو تدجيل وكذب عليه، فإن أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "ملك كذاب" كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي علاقة الدولة بغيرها من الدول يجب عليها الوفاء بعهودها، وجميع التزاماتها، واحترام كلمتها.
يقول تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة، إنما يبلوكم الله به، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون)
ففي هاتين الآيتين يأمر الله تعالى باحترام العهود والمواثيق ويضيفها إلى الله تعالى "عهد الله" ويحذر من نكث العهود بعد إبرامها، كفعل تلك المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها من بعد إحكامه، وقوة إبرامه، وينادي بأن تكون المعاهدات والاتفاق بين الأمم مبنية على الإخلاص وحسن النوايا، دون الدخل والغش الذي يقصد به أن تكون أمة هي أربى وأزيد نفعا من أمة، فتستفيد من المعاهدة على حساب أمة أخرى. وهو ما نشاهده في معاهدات هذا الزمان.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالا يحتذى في احترام الاتفاقات، ورعاية العهود، وإن رأى أصحابه فيها أحيانا ما يعتقدونه إجحافا بالمسلمين، كما في صلح الحديبية.
ولما جاء رجل يريد أن ينضم إلى جيش المسلمين في إحدى الغزوات ضد قريش، وكان الرجل قد عاهدهم ألا يحارب في صف عدوهم، لم يستجب له النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بالوفاء قائلا: "نفى لهم، ونستعين الله عليهم".
فإذا كان بعض الناس يعتقد أن السياسة لا أخلاق لها، فهذا أبعد ما يكون عن سياسة الإسلام، التي تقوم ـ أول ما تقوم ـ على العدل والوفاء والصدق والشرف ومكارم الأخلاق.